لم يكن العدوان الإسرائيلي ضد مفاجأة، ولم يكن قتلهم وتشريدهم وحصارهم والاستيطان فى أراضيهم من الأعمال السرية التى يجهلها العالم.
لكن هذا التعاطف الشعبى العالمى الذى نشهده حاليا مع الجانب الفلسطينى، وهذا التغير السياسى الإيجابى فى سلوك بعض المنظمات الدولية والحكومات والبرلمانات فى مناطق العالم المختلفة، يُعد تطورا جديدا ولافتا.
سيبادر البعض إلى رد هذا التغير الإيجابى الملحوظ فى سلوك المجتمع الدولى تجاه العدوان الإسرائيلى وحقوق الفلسطينيين، إلى بشاعة ذلك العدوان، وتجاوزه القوانين والأعراف والمبادئ، التى توافق عليها المحاربون عبر العصور، وهو أمر لا يمكن استبعاد أثره، أو التقليل منه، بطبيعة الحال.
لكن شيئا من هذا حصل سابقا، ليس فقط فى المذابح الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، منذ أكثر من سبعين عاما، لكن أيضا فى جرائم أخرى عديدة، ارتكبتها إسرائيل ضد العرب، سواء فى الجولان، أو لبنان، أو صحراء سيناء، وحتى فى العراق، ووصولا إلى تونس، أما الجديد فى تلك المرة، فقد كان عاملا مهما وقاطعا فى حسمه.. إنه عامل الصورة.
فى بعض الأدبيات التى نظّرت لتاريخ الحروب، حلت الصورة كـ «أداة قتال رئيسية»، وفى معظم المعارك والنزاعات التى اندلعت منذ حرب فيتنام، بدا أن الصورة كانت أحد الأسلحة التى أثّرت فى حسم نتيجة أى معركة.
لقد طرأ متغير جديد على وسائل كسب الحرب، إذ كانت الخيول المُدّرعة كفيلة بحسم أى معركة من معارك الجيل الأول للحروب، إلى أن تم اختراع المدفعية، فباتت تلك الخيول وبالا على من يستخدمها.
فلم يستفد فرسان المماليك شيئا من الخيول المُطهمة التى واجهوا بها جيش نابليون بونابرت، لأن مدفعية الجيش الفرنسى كانت أكثر تأثيرا، لكن الآلة العسكرية الفرنسية كلها منيت بهزيمة نكراء لاحقا فى مستهل الحرب العالمية الثانية، على يد الجيش الألمانى.
.. الذى كان يستخدم دبابات مدرعة خفيفة الحركة من نوع «بانتزر مارك الثانى»، وهى الدبابات التى مكنته من تحقيق الاختراق فى صفوف العدو، قبل أن يظهر الأثر الحاسم للقنبلة الذرية فى هيروشيما وناجازاكى.
إنها قصة الحرب إذًا. الموارد والمعدات ووسائل استخدامها تحدد اسم المنتصر إلى حد بعيد، بصرف النظر عن شجاعة المقاتلين أو الحق الأخلاقى.
كان ذلك كله مفهوما وفعّالا إلى أن دخل سلاح جديد ساحة الحرب، إنه سلاح الصورة، الذى بزغ تأثيره فى المعارك الحربية مبكرا فى منتصف القرن الماضى، حين كانت الولايات المتحدة تخوض معركة فى الأراضى الفيتنامية، لنصرة جيش الجنوب فى مواجهة جيش الشمال، الذى كان مدعوما من الاتحاد السوفيتى السابق والصين.
يُعتقد على نطاق واسع أن مجموعة من الصور التى التقطها مصورون بارزون قاموا بتغطية المعارك كانت أحد أسباب صدور قرار سحب القوات الأمريكية وإنهاء الحرب هناك.
لقد ظلت الصورة تلعب أدوارا مؤثرة فى الحروب منذ ذلك الوقت، إلى أن وقعت حرب الخليج الثانية 1991، وهى الحرب التى سُميت «حرب سى إن إن»، لكونها الحرب الأولى فى التاريخ البشرى التى تُنقل على الهواء مباشرةً بفضل تلك الشبكة الإخبارية، التى أحدثت بذلك ثورةً غير مسبوقة فى عالم الإعلام، حيث أضحى بوسع المرء أن يشاهد الصواريخ وهى تنهمر على المدن كأنه يتابع فيلم تشويق مثيرا وجذابا.
وفى عام 2000، عادت الصورة لتصنع «مجدا سياسيا» ذا تداعيات سياسية، حيث التقط مصور، يعمل فى وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب)، الصورة الشهيرة للطفل الفلسطينى محمد الدرة، الذى قتلته القوات الإسرائيلية بدم بارد فى مشهد لا يُنسى مع اندلاع «انتفاضة الأقصى»، وهى الصورة التى أثرت فى الرأى العام الدولى، بشكل كبّد الجانب الإسرائيلى خسائر معنوية وأخلاقية، وسجل فى مسار الصراع تغييرا ملموسا.
يذكرنا هذا بالطبع بالصور التى تسربت من معتقل «أبوغريب» العراقى، إثر الغزو الأمريكى للعراق، فتلك الصور، التى أظهرت جنودا أمريكيين ينتهكون أعراض أسرى عراقيين ويعبثون بكرامتهم، هى نفسها التى زعزعت المكانة الأخلاقية للولايات المتحدة، وهزت بالتالى مكانتها الاستراتيجية، وصعّبت عليها الأمور كثيرا.
تؤدى الصورة دورا حاسما فى المعارك التى تدور فى قطاع غزةمنذ اندلاع «طوفان الأقصى»، وهى وإن كانت انتصرت لإسرائيل، ووفرت لها غطاء سياسيا لشن عدوانها الواسع، فى مستهل هذا «الطوفان»، فإنها عادت ورجحت كفة الفلسطينيين، حينما أمعنت إسرائيل فى العدوان والإجرام والشطط.
بقوة الضعف، وصورته، وأشلاء الأطفال والنساء والشيوخ، وجوعهم، يتغير الرأى العام العالمى، وينعكس فى تظاهرات، واحتجاجات، وبيانات، وقرارات مؤثرة. إنه سلاح الصورة، الذى لم تهزمه القنابل.