قصىة النداف مع مراهنات سباق الخيل.. بالرغم من عسر الحال وقلة القروش والمال، وبالرغم من الأخطار والأهوال، يصر جعاز أبو عبد، الذي عمل ندافاً في بلداتنا، على مواصلة الانخراط في صحبة تهوى سباق الخيل وتعشق المراهنات، وتسعى إلى الانشراح في كسب المزيد من المال والتفاخر بمعرفة نتائج السباقات. كان أبو عبد يغادر يومياً عمله ويمتطي مسرعاً أي وسيلة نقل متوفرة للذهاب إلى العاصمة، حيث قلبه المولع بالمضمار (ميدان سباق الخيل) ويقع هذا
في أرقى أحياء العاصمة.
كان أبو عبد يركب يوماً خلف سائق دراجة نارية، وآخر سيارة ركاب صغيرة، وتراه في أيام أخرى في شاحنة أو حافلة أو ما تيسر من وسائل النقل. إلا أنه في غالب الأحيان يركب فوق أكياس وصنادق الخضر في “بيكبات” المزارعين المتجهة إلى المزادات في بغداد، متلفلفاً بكوفية حمراء حماية له من أمراض البرد المؤلمة التي تحملها رياح الشتاء اللاسعة وتنفثها في الأجساد.
مرة وجدناه راكباً وهو منبطح على ظهره، ويداه ممدوتان، وأرجله مثنية، وكأنه يعوم على أكياس الخضرة في مؤخرة “بيكب” متجهة إلى أسواق الجملة ومحملة بالبطيخ والجح، حيث أقصي إلى خلف المركبة إما لكثرة أصحاب الشأن في مقدمتها، أو لتدني مكانته الاجتماعية بين الناس، وذلك لولعه، ولاعتياده، ممارسة المنكرات الدينية (الريس سيز). وفيما كان يلاحق تلك السيارة صبية وفي أيادي بعضهم أسياخاً حديدية طويلة مدببة، كانوا يغرسونها في البضاعة لالتقاط ما توفر لهم مما تحمل المركبة من محصولات زراعية وهي تسير فيما هو ينش بيده هؤلاء الصبية قائلاً لهم:
– حرام يا ولاد… ويحكم هذا حرام ومخالف لشرائع الله… أترتضون هذا الشيء لكم ولأهاليكم؟.
والصيبة يضحكون ويقهقهون، وهم على علم ودراية بما يقوم به أبو عبد من محرمات تخالف ما يقول وما يدور في فكره.
وكان أبو عبد صاحب نكتة، ورجلاً مرحاً وضحوكاً، وأحاديثه سلسة وكأنها خرير جدول ماء صاف سهل الانسياب، وكان شباب البلدة يجالسونه حيث كان يعمل ويفترش خارج محله لحافاً قديماً له عبقه في مكان مشمس شتاءً ومظلل بأفياء أشجار التوت القريبة من مصدر رزقه صيفاً. هذه الأشجار، التي تراقص غصونها الريح وتأوي الطيور التي تشارك الزوار بتغريداها الصداحة، فيما يتحلق حوله الشباب من أبناء البلدة وهو يعمل ويعطر المكان بنكات وأحاديث لها حلاوة.
من دعاباته الجميلة حديث دار بينه وبين عامل نظافة مسكين اسمه علي مصاب بالتأتأة، حيث قال الشاب:
– أبشرك بأني وجدت عملاً منتظماً في البلدية، براتب قدره 20 دينار……… زين؟
كان المبلغ في ذلك العهد قليلاً، فأراد أبو عبد ألا يكسر خاطره، فرد عليه قائلاً:
– وبعد عشرين سنة إن شاء الله، سيصبح راتبك يا علي… ي …. ي ….ي 200 دينار.
فرح المسكين لبساطة تفكيره ولفكرة تضاعف المبلغ 10 مرات مما هو عليه، وبعدها انفجر جميع الجلاس بالضحك والتصفيق المدوي والزغاريد وتزيين المكان بفرحة ما بعدها فرحة، ولفت انتباه الناس من المارة ظناً منهم حصول الموافقة على تبليط الشارع العام في البلدة الذي طال انتظاره.
في سباقات الخيل يطلق على الخيول أسماء علم وكنيات وألقاب مختلفة من بينها “خالد” و”أسد أنور” و”الأشم” وغيرها، وكان المشجعون والمراهنون ينادون ويصيحون ويتصايحون بهذه المسميات. وكانت الخيول في هذه السباقات تجري وتتم في مجموعات أو وجبات ذات أرقام يطلق عليها “حلات” مثل الحلة الرابعة.
وكان ابن صاحب مطحنة الحبوب في البلدة ذا الجلباب الأبيض الفضفاض يعمل مهندساً في العاصمة، واسمه وليد. وكان وليد هذا يذهب إلى عمله في العاصمة في الصباح، ويعود إلى البلدة حيث يسكن في المساء، تماماً كما كان يفعل أبو عبد ذهاباً وجيئة. وفي العادة، كان أهالي البلدة عند السفر يلتقون في محطة النقل ويرى بعضهم بعضاً هناك، إلى أن يكتمل عدد الركاب.
من شدة انغماس وتولع أبو عبد بالمراهنات ومسابقات الخيول، نراه لا يميز بين أسماء الرجال والخيول، وخير دليل على ذلك عندما تأخر وصول وليد ابن صاحب المطحنة مساءً إلى البلدة، وكان أبو عبد قد وصل، وعند نزوله من سيارة التاكسي سأله صاحب المطحنة قائلاً:
– أبو عبد هل رأيت ابني وليد؟
ظاناً أن وليد اسم فرس، أجابه أبو عبد:
– ليش؟ هو بأية حلة يركض؟
هكذا عندما ينغمس ويولع المرء في مجال ما، تختلط عنده المسميات والأفكار، وينفق الوقت والمال والجهد من أجل تحقيق ما يصبو إليه، وتراه تائهاً في دنياه.