“أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي”.. لم يحدث قط أن ظلّت أمّة منتصرة إلى الأبد. أنا أخاف شيئاً واحداً: أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر الى الأبد لا يمكن أن ينهض ثانية، قل لهم: احرصوا على ألا تُهزموا إلى الأبد.
تبدأ أحداث رواية “زمن الخيول البيضاء” في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولاً لعام النكبة
إذ يبدأ زمن الخيول البيضاء تحديداً في أواخر عصر الدولة العثمانية، وينتهي قبل خروج الإنجليز وتسليم فلسطين إلى العصابات الصهيونية، ترتكز على جانب خيالي في علاقة الإنسان بالخيل وعلى جانب توثيقي في سرد الأحداث بالترتيب التاريخي السليم.
يصنع إبراهيم نصر الله عالماً روائياً يسترفد مادته من الذاكرة الشعبية، ويحاول إعادة تصنيعها بطقوسها وأحداثها وعاداتها، وأفراحها وأتراحها، ليبقى منجزه شاهداً على صورة فلسطين الضائعة.
تدور الرواية حول صورة قرية فلسطينية على مدار قرن من الزمن، تتحول الأنظمة، تتغير صورة الاحتلال، وتبقى قرية “الهادية” شامخة في وجه مستعمريها، تصمد، تقاوم، وتعيش. يستشهد أبناؤها وخيلها وحمامها وأشجارها.. كل شيء يرحل، لكن سرعان ما تولد أجيال جديدة تواصل رسالة الأجداد والآباء.
استطاع إبراهيم نصر الله أن يمسك برقبتي ويقودني، لأكون شاهداً على حكاية تاريخية لا تغادر صغيرة ولا كبيرة في الشأن الفلسطيني إلا شملته وأحصته وعدَّدته، ووصفته بشكل شديد الواقعية، عن طريق رسم تصرفات شخوص الرواية بصدق وأمانة دون تصنُّع أو ارتباك، فتشعر كأنك كنت تشهد الحدث، وتتلمس مشاعر وأفعال أبطال الحكاية وهم يتحركون في الزمن.
صفحات من الأدب الخالص تصر على أن تقدم مئة عام من التقتيل والتهجير والخيبة، بارعة في أن تصور حقيقة الفلسطيني الذي يحمي تاريخه، صانعاً بذلك ملحمة عربية كُتبت بصوت جماعي.
ذات يوم سأرسمكم كلكم، سأرسم الأحياء والشهداء، وأقيم معرضاً أطوف به مدن فلسطين كلها، ذات يوم، حيث لا يكون هنا إنجليز و لا مستعمرون يهود.
تأخذ الرواية نوعاً مميزاً في السرد، حيث تتجاوز حدود الروايات الملحمية التقليدية. يُظهر الكاتب هنا رغبة في تقديم التاريخ من خلال عيون الشهود، وهو أمر يُضفي على العمل طابعاً فريداً، يتجلى في الابتعاد عن الأساليب النمطية في البنية السردية، حيث يتفاعل الأسلوب البنائي المختلف مع تجارب الأفراد عبر الحقب الزمنية المتنوعة، فنلاحظ رغبة الكاتب في إعادة الحياة إلى التاريخ من خلال الحوار معه، وهذا يمثل خطوة نحو استنباط مفهوم جديد للسرد التاريخي.
ففي “زمن الخيول البيضاء”، يكون المكان في فلسطين وتدور الأحداث بقرية “الهادية”، وهي قرية خيالية تقع وسط فلسطين في ضواحي القدس. يتم استخدام اسم القرية بشكل استعاري ورمزي، ربما يرتبط بمعناه- الدال- لكونه شاهداً ودليلاً على بداية ظهور قضية فلسطين. يمتد تأثير شخصياتها وأحداثها إلى حيفا ويافا والرملة والخليل وغزة، لتعبّر عن كامل فلسطين من النهر للبحر. بينما يبدأ الزمن من أواخر الحكم العثماني لفلسطين وحتى النكبة عام 1948، وهي فترة مليئة بالأحداث التاريخية المفصلية التي أثرت في نشوء وتطور القضية الفلسطينية.
“وطوال ذلك التنقّل من مكان إلى مكان كان يستعيد كلمات أبيه: لا تذهب إلى بلدٍ ماؤه طيب، بل اذهب إلى بلدٍ قلوب أهله صافية، ولا تذهب إلى بلد محصن بالأسوار بل اذهب إلى بلد محصن بالأصدقاء”.
من حيث التكوين الملحمي، يظهر أن الرواية استُلهمت من ملحمة “الإلياذة” اليونانية. إذ يتماثل القالب الأدبي بينهما في ما يتعلق بأجواء الصراع والحرب، والتشابه في تصوير البطل كنموذج مثالي لروح الشعب المدافع عن حقه. يشبه هيكتور، بطل مدينة طروادة المحاصرة، الحاج خالد البطل الفلسطيني، حيث يتماهى معه في روحه وقيمه ويواجه مصيراً مشابهاً لحصار طروادة، الذي ينتهي بالدمار.
الرواية تسرد أيضاً حكاية الحب التي لم تكتمل في ظل الحرب والنزاع، وتستعرض جمال الأرض وسمائها، إذ تقدم لحظات من الحياة اليومية وتناقضاتها ولحظات من المأساة والبطولة، حيث ترص الرواية في تناغم عناصر متنوعة مثل الخيول والحمام والفرسان والوفاء والفداء. ويأتي ذلك السرد الأدبي والشاعري كعمل يرسم صمود ووجود الشعب الفلسطيني وجذوره العميقة بهذه الأرض بشكل بديع، في مواجهة زيف الرواية الصهيونية الرديئة التي تدعي أن فلسطين كانت أرض بلا شعب.
إبراهيم نصر الله، ببراعة السرد وفن الكلمة، نسج حكاية تروي قصة شعبٍ حقيقي، ينبض بالحياة في أرضٍ حقيقية. يعيش فوق تراب محمل بتراث غني، تملأه التفاصيل الزاخرة التي تتفتح كزهرة في الربيع، لا يمكن تجاهلها أو طمسها بأوهام النسيان. إذ نجح في أن يرسم صورة الشعب الفلسطيني وهو مليء بالصخب والتفاعل، وهو يعيش تفاصيل فريدة، تنبع من حياة مكنونة ومشبّعة بالفرح والمآسي والأحزان. إنها بالحق رواية ملحمية كبيرة، تروي قصة شعب أصيل، يصارع الزمن بكل قوة، ليشهد له التاريخ بوجوده الراسخ في هذه الأرض.