سيد شوقي الشرقاوي ـ عرضت احدي صفحات التواصل الاجتماعي فيس بوك صورة نادرة في بغداد لـ الملك فيصل الثاني بن غازي آخر ملوك العراق جمعته مع ضيفه الملك سعود الأول في المقصورة الملكية بحلبة سباق الخيل في بغداد ابان أول وآخر زيارة رسمية للعاهل السعودي إلى العراق عام 1957 قبل الاطاحة بالملكية العراقية في يوم 14 تموز.
وفي العراق فان سباق الخيل في بغداد كان يطلق عليه“الريسز” كان من اهم الأحداث التي شغلت جمهورا واسعا من سكان العاصمة بغداد إبان العهد الملكي في العراق. أدخله الإنكليز وأقاموه كناد طبق الأصل لتلك اللعبة التي عهدوها في بلادهم.
وكما حدث في لعبة كرة القدم، دخلت المفردات والمصطلحات الأنكليزية هذه اللعبة وأزاحت جانباً الكثيرمن مرادفاتها العربية واحتلت مكان الصدارة لدى عامة الجماهير البغدادية التي ما انفكت تستعملها حتى بعد إبطال “الريسز” في عهد عبد الكريم قاسم الذي أطاح بالحكم الملكي في الرابع عشر من شهر تموز من عام 1958.
وتبوأ مكان الصدارة من تلك المصطلحات مصطلح “الريسز” وتعني في الأنكليزية “سباق” حتى اُهمل استعمال المفردة العربية ولم يعد هناك من يعزي مفهومها الى سباق الخيل
ومن بين النوادر والمِلَح التي كانت تدورآنذاك بين المواطنين هي تلك التي تزعم أن حوذياً (أبو عربانة قوﭺ – صاحب حنطور) وقف في يوم قائظ يصرخ بأعلى صوته “سباق”, “سباق” موجهاً صراخه نحو جماعة من رواد “الريسز” الذين تجمهروا في الجانب المقابل من الشارع ينتظرون عربانة أو سيارة ركاب تقلهم “للريسز”
واستمر صاحبنا العربنچي ساعة طويلة بصراخه وانبح صوته ولم يلتفت اليه احد من الرواد الذين بدورهم ضاقوا ذرعا بالوضع وعانوا من شدة الحر فتوجه احدهم الى العربنچي يسأله : “عمي كلي شنو هذا السباق؟” وعندما أجابه أنه “الريسز” انهال عليه بكلمات نابية قائلاً : “ولك ابن الكح….إحچي عربي كول “ريسز”. ومن المفردات الأخرى التي كانت دارجة عند العوام والتي حرِّفت من الأنكليزية أتذكّر المصطلحات التالية:
“الكونة” – حرِّفت من كلمة “كورنر- “Cornerويقصد بها الدورة الأخير قبل الوصول الى الخط النهائي من حلبة السباق.
و”ﭼانِص” – محرفة من “ﭽانْس -Chance “ وتعني “نصيب” أو “حظ” وكثيرمن رواد “الريسز” كانوا يتوجهون الى من يظنون بأنه ذو دراية بالخيول المتسابقة ويسألونه أن يعطيهم ﭽانِص اي يرشدهم الى الحصان الأكثراحتمالاً بالفوز.
وكان والدي الذي كان من رواد “الريسز” وصاحب خيل يمتنع من “إعطاء ﭽانِص” لأحد وذلك إحترازاً من عدم التوفيق والخسارة اللذان يجلبان الغضب والسخط على من أعطى الچانِص.
وهناك اصطلاحان لم يطرأ على لفظهما تغيير أو تحريف وهما “جاكي” (Jokey) وهو الفارس الذي يمتطي الجواد في السباق و”فلوك” (Fluke)ويعني الربح العالي الغير متوقع. وفي تلك الأيام اشتهر “جاكيان” الأول هو “ممفي”
وكانت له الأولية في ركوب جياد الو صي علي عرش العراق الأمير عبد الإله الذي كان مغرماً بسباق الخيل وكثيراً ما كنت أشاهده جالساً في “اللوج” مع حاشيته وبيده منظار (دربين) يتابع من خلاله مجرى السباق وخاصة عندما كان أحد جياده مشتركاً فيه , والثاني هو “شلاّل” الذي ذاع صيته في بغداد كفارس ماهر.
وكانت اسماء فرسان الخيول تتعالى في صراخ صاخب ينطلق من حناجرالجمهور الذي راهن على الجواد الذي يمتطيه ذلك الفارس عند وصول الخيول المتسابقة إلى المرحلة الأخيرة من حلبة السباق. وكان صراخ المراهن يرتفع اكثر لدى سماعه صوت مراهن اخر بجانبه ينادي على اسم فارس منافس له مشجعا اياه على سرعة العدو وكأن هناك دافع أو شعور داخلي لا يمكن كبحه يقول له ان المنافسة بقوة وبشدة الصراخ ستحث الفارس على الفوز.
احتل كل من “ممفي” و”شلال” مكان الصدارة في حناجر المراهنين الى جانب الفرسان الآخرين. ومن الصور التي علقت في ذاكرتي من هذا المشهد هو ذلك اليهودي المدعو حسقيل أبو السيلان أي بائع الدبس الذي راهن على حصان كان راكبه “جاكي” يدعى حسون ووقف يتوسل بلهجته اليهوديه : “أبدالك حسون بس غاسك , غاحت فلوس السيلان , بس غاسك حسون” (جعلت فداءك يا حسون رأسك فقط , ضاعت فلوس السيلان , رأسك فقط) اي فُز في السباق ببروز رأسك فقط لا أريد أكثر.
وكان هذا المسكين ألغث لا يستطيع النطق بحرف السين وينطقه ثاء مما جعله محل استهزاء عند الطائشين من المراهنين عندما سمعوه يتوسل : “أبدالك حثون بث غاثك حثون غاحت فلوث الثيلان….” أما شلال فتركيبة كلمتي “سوكشلال” اللتين كان يصرخهما المراهنون بشدّة اصبحت عند مفهوم البغداديين تعني “أسْرِع” أو “إمض قُدماً”.
وحين نوقشت في البرلمان العراقي لائحة إسقاط الجنسية العراقية عن يهود العراق في الثاني من شهر مارس عام 1950 تحمّس أحد النواب للمشروع ولم يتمالك نفسه وانطلق يهتف “سوكشلال” حتى اسكته رئيس البرلمان الذي ترأّس الجلسة.
أما الأرباح فكانت توزع علي الفائزين بنسبة عكسية لكمية التذاكر او المبالغ التي روهن بها علي الحصان الفائز , فكلما ازداد المبلغ قلّ الربح والعكس بالعكس.
وكثيراً ما كان المجازفون من رواد “الريسز” يراهنون على الحصان الذي يعتبره الكل أنه خاسرلا محالة آملين بفوز كبيرغير متوقَع إذا “طلع فلوك”.
وذات يوم راهن خمسة أشخاص بينهم حسقيل اليهودي ووضع كل منهم درهما في يد حسقيل وأتمنوه لشراء تذكرة التي كان سعرها آنذاك ربع دينار راهنوا فيها على حصان كان احتمال فوزه ضئيلا آملين أن “يطلع فلوك” وتحقق املهم وفاز الحصان وكان الربح مضاعفا بعشرين مرة من سعر التذكرة.
والدرهم الذي أودعوه عند حسقيل أصبح يساوي دينارا كاملا وهذا مبلغ ضخم في تلك الأيام وانتشر الخبر في بغداد واصبح حديث الساعة لدى الكثير من سكان العاصمة.
وكان من عادة المرحوم والدي حال عودته من “الريسز” مساءً، الجلوس في قهوة خضوري زنڰي في محلة أبو دَوْدَوْ اليهودية لاحتساء الشاي ومناقشة مجرى السباق مع رواد المقهى وكنت دائمأ ارافقه ذهابا الى الريسزوإيابا الى المقهى.
ولم نجلس إلا قليلا حتى ورد المقهى شخص غريب تبدو على قسمات وجهه وسماته انه من الأشقياء ووجه الى الحاضرين سؤالاً : “وينه هذا حسقيل آني شريكه وأريد ﺤكي” وكان حسقيل جالسا ولم يتعرف عليه وكان واضحا أن ادعاءه كاذب, ثم جاء بعده كذابون آخرون وادعوا نفس الأدعاء فما كان من والدي إلا أن إرسل حسقيل الى بيته بعد أن أخذ منه أسماء شركائه الحقيقيين ثم طمأنهم بعد ذلك وكفل لهم حقهم لعلمه ان مدعيِ الباطل سوف يكفون عن أدعاهم بعد مدة وجيزة.
وكان بعض أصحاب الخيول يتعمدون إفشال خيلهم في السباق ويخلقون انطباعا مزيفاً عن الجواد لدى روّاد “الريسز” كي يمتنعوا عن الرهان عليه باعتباره من الخاسرين وعندئذ “سيلعب عليه” أصحاب الحصان واذا ما فاز “وطلع فلوك” فسيدر عليهم أرباحاُ طائلة , وكان يطلق على عملية إلأفشال المصطنعة هذه “جرّْ الحصان”.
وكان هناك بعض المراهنين من الذين لم يلازمهم الحظ وممن خسروا في رهانهم لايعترفون بأخطائهم وبسوء تقييمهم وتقديرهم عندما قرروا الرهان على الحصان الخاسر ويلقون باللائمة على أصحاب الحصان وكثيرأُ ما كنت أسمعهم يقولون بغضب “خوات الكح….جَرّوا لحصان”.
كما كان اقتناء الخيول الأصيلة للسباق يدر ارباحا لابأس بها على صاحبها إذا كان يعرف كيف يدبِّراموره بحكمة ويعتمد على أناس ذوي خبرة وصادقين. فقد كان سعر الجواد الذي كنا نشتريه من العرب اي البدو نحو عشرة دنانير وكنا نبيعه بعد سنة أو سنتين بنحو مائة دينار اذا كان قد نجح في سباقاته. وبعد شرائه كان يودع في طولة (اسطبل) وكان على صاحب الطولة العناية به وعلفه وتدريبه لتصبح له “يد فيه” , أي ان تكون له قائمة من قوائمه الأربع وبمعنىً آخر له الربع.
وكان لنا جوادٌ أدهم أطلقنا عليه اسم “مشتاق نعيم” , كنا قد اشتريناه بعشرة دنانير وكان له قصب السبق في أول مباريتين خاضها وذاع صيته وعندها جاء حماد الشَّكْرة صاحب الطولة الى والدي وقال له “أبو نعيم (وهي كنية والدي) لازم نْبَنْدَ الحصان ونْدِزَّهْ للهند” اي يجب علينا أن لا ندعه يشترك بعد الآن في سباقات وأن نرسله الى الهند.
ويظهر أن فعل “بَنَّد” دخل هو الآخر من الأنكليزية واشتَقَّ من (باند- (to-Band وتعني الربط. وكان العراق في تلك الأيام يصدِّر من خيوله ألأصيلة الى الهند التي كانت آنذاك مستعمرة بريطانية تجري فيها سباقات الخيل على النمط الأنكليزي كما كان متبعاً في العراق. وفعلاً أرسلنا “مشتاق نعيم” وحصانأً آخر يدعى “بنّاش عامر” الى الهند في سفينة مع حسين الخفاجي صاحب طولة في جانب الكرخ كان لنا فيها عدة خيول. وكانت شهرة حصاننا قد سبقته وعند إرساء السفينة وهو على متنها جاء من اشتراه بمائة دينار.
إذ كانت المعلومات عن الخيول المصَدَّرة من العراق ترسل إلى الهند حال إقلاع السفينة التي تقلهم. وكان لنا من “مشتاق نعيم” خير خلف لخير سلف فعندما اقتيد بعد شرائه من مضارب البدو إلى بغداد أفَلَتَ من يد قائده السايس وشبَّ على فرس كانت سائبة ترعى في الحقل وكتم القائد الأمر ولم يبح به لأحد إلا بعد أن ذاعت شهرة “مشتاق نعيم”
وعندها توجه والدي الى مضارب البدو واشترى نجله وأسمينا ذلك الفلو الوسيم “برق الإله” الذي تفوق هو الآخر في سباق الخيل وبعناه بثمن باهظ.
اما تدريب الخيل فكان يسمى “خَبّْ” , إبتداء من المشي العادي “القدم” وحتى بلوغ السرعة القصوى (يدربك) وكان هناك سُلَّم للتعريف عن مراحل التدريب استعملوا فيه مصطلح “عانة” واطلقوا مصطلح “16 عانة” على المرحلة أو السرعة النهائية و”8 عانات” للسرعة المتوسطة حيث يطلق العنان للجواد ليجري حسب هواه
اما “أربع عانات” فتعني الجري خَبَبأً يعدو فيه الفرس مراوحاً بين يديه ورجليه وكانوا يعرّفون هذه النوع من الجري ب” كيرﭽال” , لعله اصطلاح إنكليزي. وكثيرا ما كنت أرافق والدي في صباح أيام السبت الى حلبة “ألريسز” حيث يجري خَبُّ الخيل لمتابعة تقدّمها وكان الوالد يستعمل ساعة قياس الوقت “stopper” لقياس مدى سرعة الفرس , وكان قََطْعُ المسافة بأقل من الوقت المعدل يشار إليه بثوانٍ فمثلاً إذا وصل الجواد الى نهاية المطاف قبل ذلك بخمس ثوانٍ قالوا “جا خمسة كاصر” واصبح هذا المصطلح يطلق عند العامة على من يفوز علي منافسيه أو علي من يريدون أن يشيدوا بقدرته ومهارته ويقولون “هذا جا تسعة كاصر”.