لطالما احتلت الخيول مكانة خاصة وأساسية في المجتمع الياباني وثقافته عبر التاريخ، حيث كانت لها أدوار متعددة تشمل العمل في الحقول والأراضي الزراعية، وكانت وسيلة تنقل حربية تقل على ظهرها مقاتلي الساموراي إلى ساحات المعارك. في هذا المقال، سنلقي نظرة على ثلاث مهرجانات تحتفل بالتراث الثقافي الشعبي المرتبط بالخيول في اليابان.
خيول مقدسة
تشير الدراسات الحديثة إلى أنه قد تم ترويض الخيول لأول مرة في تاريخ البشرية منذ أكثر من 4000 عاماً في آسيا الوسطى أو ما يعرف اليوم بجنوب روسيا. وأصبح لها قيمة كبيرة في حياة الإنسان وجزءًا لا يتجزأ منها، فقد ساهمت بشكل كبير في تسهيل حياته من خلال استخدامها كوسيلة للسفر ونقل البضائع إلى أماكن أبعد وفي وقت قصير مقارنة بالسابق.
وقد وصلت الخيول إلى اليابان لأول مرة حوالي القرن الخامس، حيث تم استقدامها من منغوليا عبر جزيرة تسوشيما، والتي كانت آنذاك مركزاً مهماً للتجارة والتبادلات الثقافية مع بلدان القارة الآسيوية. أعطى اليابانيون قيمة كبيرة للخيول بسبب ما قدمته لهم في مزارعهم كما في الحروب التي شاركوا فيها، فخفة حركتها منحت المقاتلين ميزة وقوة أكبر في ساحات المعارك أين استخدمت لأول مرة في الحروب ابتداءً من فترة نارا ”710-94“، وقد كان اليابانيون يعتقدون أن الآلهة تتنزل وتمتطي ظهورها في ساحة الحرب. وهذا ما منحها قدسية في الثقافة الشعبية ومن جهة أخرى كانت الخيول البيضاء بشكل خاص تٌقدم كقرابين لمعابد الشنتو.
ولازال اليابانيون إلى اليوم يحتفون بالخيول في ثقافتهم من خلال المهرجانات المختلفة التي تقام سنوياً، حيث يتم الاحتفال بالخيول التي كان لها تاريخ في تدريبات الفنون القتالية، والخيول المرتبطة بطقوس الزراعة القديمة. وهذا ما سنعرف عنه أكثر من خلال نقل فعاليات وطقوس الاحتفال بها من أشهر ثلاثة مهرجانات في اليابان.
مهرجان سوما نوماوي
يقام كل آخر سبت من شهر يوليو/ تموز إلى يوم الإثنين، ويقام هذا مهرجان سوما بمنطقة مينامي سوما، محافظة فوكوشيما.
يعود تاريخ مهرجان سوما نوماوي إلى أكثر من ألف عام، وحسب القصص التاريخية المتوارثة فإن بداية هذا المهرجان مرتبطة بالمحارب المتمرد تايرا نو ماساكادو ”903-40“. أين كان يقوم بتدريبات عسكرية في السهول المحيطة، وليبدد شكوك البلاط الإمبراطوري حول احتمالية تخطيطه للتمرد، ادعى أنه يقوم بمطاردة خيول برية يستخدمها العدو في القتال، وبعد استحواذه على هذه الخيول يقوم بتقديمها للمعبد كقربان وأطلق على تلك العمليات اسم مهرجان. واستمر أتباع سوما في القيام بهذه الطقوس على مدار القرون اللاحقة، واليوم تستقطب سوما نوماوي عدداً كبيراً من الناس كل صيف إلى المنطقة لحضور فعاليات هذا المهرجان الذي يقام لمدة ثلاثة أيام متتالية بمحافظة فوكوشيما.
في صباح اليوم الأول من المهرجان، تبدأ الاحتفالات بحفل استقبال يسمى ”سودايشو أوموكاي“ بمعبد سوما ناكامورا. وينطلق من هذا المعبد شخص يمثل دور قائد كتيبة يتبعه مجموعة من الفرسان يرتدون زي الساموراي، باتجاه حقل هيباريغاهارا أين يقام الحفل الرئيسي، في مشهد يعيد إحياء القصة الأصلية للمحارب تايرا نو ماساكادو وجنوده.
وفي صباح اليوم الثاني من المهرجان ينظم أكثر من 400 فارساً قادمين من المناطق المجاورة للمشاركة، مرتدين دروعاً تقليدية تسمى ”كاتشو“ وبأيديهم سيوفاً ولافتات مزينة بأسماء أشهر العائلات ورموز أخرى، كل هذه التفاصيل تخلق مشهداً مهيباً ورائعاً. وفي فترة ما بعد الظهر يبدأ سباق يسمى ”كاتشو كايبا“ أين يتسابق الفرسان على مضمار بطول 1 كيلومتر، وهم يرتدون دروعاً بدون خوذات تحمي رؤوسهم. ويلي ذلك سباق الرايات المقدسة ”شينكي صودتسوسان“ وهو الآخر لا يقل إثارة عن سابقه، حيث يتنافس الفرسان على الإمساك برايتين مقدستين تم إطلاقهما في الهواء بواسطة الألعاب النارية، في مشهد تنافسي وكأنه ساحة قتال يندفع فيها الفرسان وخيولهم بكل قواهم من أجل الظفر بالرايات المتطايرة في السماء.
صورة للفرسان وهم يتنافسون للامساك بالرايات المقدسة، الفائزون بهذه الرايات يتوجهون إلى التلة لتسليمها لقائدهم المخيم بمعبد ناكامورا. © مكتبة هاغا.
صورة للفرسان وهم يتنافسون للامساك بالرايات المقدسة، الفائزون بهذه الرايات يتوجهون إلى التلة لتسليمها لقائدهم المخيم بمعبد ناكامورا. © مكتبة هاغا.
أما آخر يوم من المهرجان فقد خصص لقداس صيد حصان بري ”نوماكاكى“. حيث يقوم مجموعة من الفرسان مرتدين زياً أبيضاً وعصابة رأس بيضاء أيضاً، باصطحاب عدة خيول دون سروج إلى ساحات معبد أوداكا بمينامي سوما، ثم يحاول كل فارس الإمساك بحصان من اختياره باستخدام يديه فقط ودون الاستعانة بأي وسيلة أخرى. و يتم تقديم الأحصنة المأسورة إلى المعبد كقربان.
هذا المهرجان يترجم مكانة الخيل في حياة سكان منطقة سوما، فقد توارثت العديد من العائلات جيلا بعد جيل مهنة تربية الخيول للمشاركة في مثل هذا المهرجان بالإضافة إلى إدارة نوادي للفروسية، إلى أن تسبب تسونامي الزلزال الكبير الذي وقع في مارس/ آذار 2011 في خسارة الكثير من الخيول وهذا ما أثر سلباً على المهرجان. فقد قُلصت نشاطاته بشكل كبير صيف تلك السنة واقتصرت الفعاليات على إجراء طقوس المعبد فقط، فقد المهرجان وهجه تلك السنة بشكل واضح وكبير، إلا أن الكلمة التي ألقاها الفارس الذي مثل دور قائد فرقة الفرسان شحنت همم الحاضرين خلال حفل يسمى سودايشو أوموكاي، حيث قال ”لا يمكن للزلزال الكبير ولا التسونامي ولا حتى انهيار محطة الطاقة النووية أن يهزموا روح مقاتل الساموراي“. وكانت المفاجأة أن تم تنظيم المهرجان في السنة الموالية بكل تفاصيله حيث شهد مشاركة 400 فارساً وحضور أكثر من 40 ألف متفرج.
مهرجان شاغو-شاغو أوماكو
يقام مهرجان شاغو-شاغو في السبت الثاني من شهر يونيو/ حزيران، بمنطقة تاكيزاوا وموريوكا، في محافظة ايواتى.
صورة للخيول بزينتها ذات الألوان الزاهية ومدربيها جنباً إلى جنب في مشهد ساحر. © مكتبة هاغا.
صورة للخيول بزينتها ذات الألوان الزاهية ومدربيها جنباً إلى جنب في مشهد ساحر. © مكتبة هاغا.
إن تميز منطقة وسط شمال محافظة ايواتى بمروجها الخصبة وسهولها الخضراء جعلها وسطاً مناسباً لتربية الخيول منذ فترة إيدو ”1603-1868“. وقد تزعمت عشيرة نانبو التي كانت تحكم المنطقة نشاط تربية الخيول، تميز خيولها جعلها مطلوبة بشكل كبير لتكون خيول معارك للعديد من المحاربين.
كما استخدمت خيول سلالة نانبو في الزراعة أيضاً وكان لها دور بارز في زيادة المحاصيل الزراعية، الأمر الذي زاد من قيمتها وعزز الرابط بينها وبين المزارعين والأرض، وتكريماً لهذه الخيول في حياة مزارعي منطقة ماجاريا التقليدية، كان السكان يدمجون اصطبلات الخيول مع مساكنهم، حيث تُشيد البيوت على شكل حرف L بسقف واحد.
وللحفاظ على صحة هذه الخيول كان مزارعو المنطقة وبعد انتهاء موسم الحرث وتهيئة الأرض لزراعة الأرز في شهر يونيو/ حزيران، يقومون باصطحاب خيولهم إلى معبد أونيكوشي سوزان بمدينة تاكيزاوا، حيث يٌعتقد أن الإلهة أوكيموتشي نو كامي بمعبد أونيكوشي توفر الطعام للناس وتحافظ على صحة الخيول.
ولازال السكان المحليون يحافظون على هذه الطقوس إلى اليوم، فبعد الانتهاء من الصلاة في المعبد يتم اصطحاب الخيول المزينة بألوان زاهية في موكب ليقطع مسافة 14 كيلومتر باتجاه معبد هاتيشمان بمنطقة موريوكا المجاورة التي يعتلي في خلفيتها جبل إيواتى، يمر هذا الموكب المهيب عبر طرقات الريف في وقت مبكر من صباحات الصيف الذي تكسر صمته أصوات الأجراس المربوطة إلى سروج الخيل وتسمى ب”تشاغو-تشاغو“، وقد أخذت هذه الطقوس اسمها من صوت تلك الأجراس. هذا المشهد الريفي الجميل تعبر كل تفاصيله عن الحب والرعاية التي يغدق بها المزارعون على خيولهم، وهذه الطقوس هي ما تميز مهرجان تشاغو-تشاغو.
مهرجان أونداساي
يقام يوم الأحد الأول من شهر يوليو/ تموز، بمنطقة ميساتو، محافظة ميازاكي.
صورة من طقوس مهرجان أٌومايري، أين تتسابق خيول المزارع القوية عبر حقول الأرز المغمورة بالمياه. © مكتبة هاغا.
صورة من طقوس مهرجان أٌومايري، أين تتسابق خيول المزارع القوية عبر حقول الأرز المغمورة بالمياه. © مكتبة هاغا.
يُعرف مهرجان أونداساي في الجزء الشمالي من محافظة ميازاكي بكونه أضخم مهرجان لزراعة الأرز في اليابان. يعود تاريخه إلى أكثر من 1000 عام، يتميز هذا المهرجان بالخيول الهائجة وهي تركض بكل قوتها وسط حقول الأرز المغمورة بالمياه. يعتبر هذا المهرجان السنوي من طقوس معبد تاشيرو المقام على سفح جبل غونغن. وأين يتم اعتبار رمز المحراث كإله رئيسي للمعبد.
يٌفتتح هذا المهرجان بصعود كاهن من معبد أوينو المتواجد بسفوح الجبال باتجاه معبد تاشيرو للترحيب بالمحراث المقدس. ويلي ذلك توجه موكب بقيادة شخص يرتدي زي الإله ساروتاهيكو متبوعا بما يسمى ميكوشي ”وهو مجسم على شكل معبد صغير“ مصحوبين بعربات أخرى، ينحدرون جميعاً من الجبل باتجاه حقل أرز مقدس تم غمره بالمياه استعداداً لزراعة الأرز.
وبعد الانتهاء من الصلوات وأداء رقصات الكاغورا المقدسة في قاعة العبادة الرئيسية. ينطلق الحدث الرئيسي للمهرجان المعروف باسم ”أٌمايري“. حيث يظهر فيه شباب يرتدون سترات خاصة بالمهرجان تسمى ”هابي“ ويمتطون خيولهم دون سروج، يقطعون حقول الأرز وخيولهم تؤدي عروض فنتازيا قوتها تتسبب في تطاير الوحل في كل اتجاه، بينما يفضل البعض الآخر التسابق بشكل ثنائي داخل حقول الأرز ومن يعلق حصانه داخل الحقل يتم رمي فارسه في الوحل، هذه العروض تمتع المتفرجين وتزيد من حماسهم. بينما تتعالى التصفيقات والتشجيعات للخيول التي تجتاز محيط حقل الأرز بسرعة وتصل بأمان مع فارسها إلى الجهة الأخرى.
صورة لفارس وجواده يقطعان حقل الأرز بكل اندفاع وقوة، ما يتسبب في تطاير الوحل في كل الاتجاهات أثناء مرورهما. وغالباً ما تفوز مثل هذه اللقطات المدهشة بالمراكز الأولى في مسابقة الصور الملتقطة للمهرجان. © مكتبة هاغا.
صورة لفارس وجواده يقطعان حقل الأرز بكل اندفاع وقوة، ما يتسبب في تطاير الوحل في كل الاتجاهات أثناء مرورهما. وغالباً ما تفوز مثل هذه اللقطات المدهشة بالمراكز الأولى في مسابقة الصور الملتقطة للمهرجان. © مكتبة هاغا.
تطاير الوحل في كل مكان لا يزعج الفرسان ولا المتفرجين فوفقاً للمعتقد السائد فإن ذلك الوحل يجلب الصحة والرفاهية لمن يقع عليه. في خضم هذه المشاهد الحماسية يتنافس المتفرجون بدورهم على التقاط صور مثالية للفرسان وهم يتشبثون بخيولهم دون وجود سروج أثناء تأدية عروضهم عبر حقول الأرز.
وبعد انتهاء السباق يتم نقل مجسم الميكوشي إلى حقول الأرز، وتبدأ الثيران والخيول في حرث الأرض، ثم تنطلق النسوة في زراعة شتلات الأرز وهن مرتديات قبعات الخيزران والكيمونو القطني. يعتقد السكان المحليون أن الاجتهاد في القيام بهذه الطقوس واتقانها سيرضي إله الأرز ما يجعلهم متأملين موسم حصاد خريفي وفير.